تعالت ضحكاته في الفراغ ، كان غلامًا يافعًا يودع أصدقاءه الصغار في طريق عودته إلى البيت ، و في البيت ناداه أحدهم :
- سعيد ، هل عدت يا حفيدي الصغير ؟
- هذا أنا يا جدي ، كيف عرفتني دون أن تراني ؟
- أستطيع سماع صوت أقدامك الصغيرة على الأرض ، و أستطيع الإحساس بأنفاسك المتلاحقة من شدة الجري .
- لقد تسابقنا أنا و أصدقائي للوصول إلى بيتنا ، و كل من في الحي يلاحقنا بعينه .
- لقد كبرتَ يا ولدي ، و عليك أن تشق طريقك نحو المستقبل .
- أنا لم أكبر بعد ، أم تريدني أن أصبح شيخًا مثلك يا جدي ؟
- لا أريدك أن تكون مثلي و لا أريدك أن تسلك نفس الطريق الذي سلكتُه في صغري .
- و لماذا يا جدي ؟
- سأحكي لك حكايتي يا صغيري ، سأحكي قصة طفولتي ، قصة عمار الصغير ، كيف نشأ و كيف بدأ و كيف صار ؟
- عمار ! عمار إلى أين تذهب ؟
- أريد أن ألعب في الخارج يا أمي .
- و هل ستترك أخاك الصغير ؟ إنه بحاجة لمن يرعاه و من يرعاه غيرك ؟!
راقب عمار أمه المنشغلة بغسل الثياب و أجاب :
- و أين هو الآن ؟ سآخذه معي إلى الخارج .
- ابحث عنه ..
انطلق عمار يبحث عن أخيه الصغير في غرف البيت فلم يجده ، و أخذ يبحث من جديد إلى أن وجده في المطبخ يعبث بأحد السكاكين فأطلق عمار شهقة صغيرة و ركض ناحية أخيه الصغير و حاول أن يسحب السكين من يد أخيه الصغير ، و حاول أخوه الصغير أن يسحبها تجاهه بدوره :
- دعها ستؤذيك !
- أنا لن أفعل بها شيء ، لن أفعل بها شيء !
صرخ عمار في أخيه الصغير :
- و ماذا ستفعل بها إذن ؟
- سأقطع بها هذا الحبل فقط ! فقط !!
نظر عمار إلى أخيه الصغير و ملامح الطفولة على وجه الأخير تطغى على قسماته ، فقال - عمار - :
- و بعدها سآخذ هذه السكين منك !
- سأعطيك إياها دعني إذن .
لوّح عمار بإصبعه السبابة في وجه أخه الصغير جيئة ً و ذهابًا قائلا في صورة الناصح المشترط :
- هذه المرة فقط !
- هذه المرة ، فقط هذه المرة .
أمسك الأخ الصغير بطرفي الحبل في يد ، و أمسك السكين في اليد الأخرى ، و أدخل السكين بين طرفي الحبل ، و مدّ يده ذات السكين على امتدادها إلى أن وصل إلى القمة التي سيقطع بها الحبل إلى اثنين و جعل يده الممسكة بالحبل إلى أسفل و يد السكين إلى أعلى ، فقال عمار :
- ليس بهذه الطريقة ، لا لا ! ..
- دعني سأقطعه ، سأقطعه !
تدخل عمار ليمسك يد أخيه الصغير الذي أصرّ على موقفه ، و فعلا قطع الحبل في اللحظة التي اقترب فيها عمار من أخيه ، لكن استمرت يد الأخ الصغير ذات السكين في المضي في طريقها إلى أن لامست عين عمار اليسرى الذي صرخ بعد أن وضع يديه على عينيه :
- آه ، ماذا فعلت .. ما هذا ؟ .. إنه دم ؟!
انطلق الأخ الصغير يجري هاربًا خائفًا إلى أمه .
الحفيد – ياه ، يا جدي ..
الجد – لم أكن أدري ما أصابني ، فقط أخبروني أن الطبيب يقول أنه لم يعد باستطاعتي أن أرى بعيني اليسرى ، و ألا أستبعد أن يصيب اليمنى ما أصاب اليسرى في غضون الشهر أو الشهرين على الأكثر .
ذهبنا من مستشفى إلى مستشفى و من طبيب إلى طبيب نحاول على الأقل أن نمنع الأذى عن اليمنى ، فكان كل من نذهب إليه يؤيد ما قاله الطبيب الأول .
و مضى الشهر و مضى الشهران ، و لم تصب عيني اليمنى بأي أذى ، و مضت السنة و السنتان و لم تصب عيني اليمنى بأي أذى ، فحمدنا الله و شكرناه على نعمته فينا و مضى على الحادثة عشرون عامًا و بعدها ..
- عمار ، أتريد أن تخرج معي ؟
- لا أريد ، شكرًا لك ..
فارقني أخي الصغير و تركني فحدّثتني نفسي بأمور :
- و إلى أين أخرج يا حسرة .. منذ وقعت الحادثة و أصدقائي يتهربون مني و يصادقون أخي ، لا تعجبهم النظارة السوداء التي أخفي فيها عيني و لا أضعها إلا لأجلهم ! و لا تعجبهم أحاديثي و أخباري و قصصي المسلية لأنني لم أعد أستطيع أن أحكيها كما كنت قبل الحادثة ، لم يعد منهم من يهتم لأمري ، و إن طرق أحدهم باب البيت سأل على أخي ، هو سبب ما أصبت به ! ، لم يعد لي عمل و السبب أخي ، لم يعد لي أصدقاء و السبب أخي ، لا أستطيع أن أشغل نفسي بشيء و السبب أخي !
سأنتقم ! .. هذه هي لحظة الانتقام .. لربما أراد الله أن تبقى عيني اليمنى بدون أذى كل هذه السنين لأكون قادرًا على الرد ، قادرًا على إعادة الحق .. قادرًا على إقامة العدل ..
ها هو أخي قادم ، و ها قد حانت اللحظة .
دخل الأخ الصغير إلى البيت و ألقى تحية قصيرة على أخيه عمار الذي أخذ أخاه على حين غفلة و أسقطه بضربة عصا على رأسه أرضًا ساكنًا بغير حراك ، فقال عمار كمن يستيقظ من حلم :
- ماذا فعلت ؟ .. لقد قتلت أخي ! ..
الجد – و اسودت الدنيا في عيني اليمنى ، و أدركت أنني لم أعد أستطيع أن أرى ، و تحققت نبوءة الطبيب .
الحفيد – و هل قتلته فعلا يا جدي ؟
- الحقد أعماني و أعمى بصيرتي .
- هل قتلته حقـّـًا ؟
- إنه أخو جدك و عمّ والدك ، و أنت تعرفه جيدًا و هو ما يزال حيًا إلى هذه اللحظة ..
- أتقصد ..
- أدركت عندها أنني كنت بأفضل حال بعيني اليمنى ، فهلا ّ أخذتَ بيدي إلى المسجد فها هو المؤذن يؤذن بالصلاة .
- آسف أن ذكّرتك بذكريات حزينة .
- الحقد أعماني و أعمى بصيرتي يا ولدي .
و ظل الجد يكرر هذه العبارة و هو يتحسس بعصاه الطريق و حفيده يقوده إلى طريق المسجد .